الخميس، 2 يوليو 2015

الزيارة الأخيرة لمكتب النائب العام

جريدة الاخبار  - 2/7/2015


آخر لقاء جمعني بالراحل الشهيد المستشار/ هشام بركات كان منذ حوالي ثلاثة أسابيع تقريباً. النائب العام هشام بركات كان المسئول الوحيد في مصر الذي أطرق بابه دون موعد مسبق رغم مسئولياته الجسام. في آخر لقاء جمعني به ذهبت إلي مكتبه لسبب طارئ يتعلق بالعمل، ودون موعد مسبق. دخلت إلي مدير مكتبه والذي يعرفني جيداً، فبادرته، كالعادة جئت دون موعد، فرد عليّ فوراً ده سيادة النائب طلب نتصل بك.

فدخل وفي أقل من دقيقة عاد، وقال لي تفضل، واستقبلني النائب العام بابتسامة هادئة كعادته، فبادرته أنا جاي النهاردة زيارة وتجارة مش جاي لوجه الله علشان عندي مشكلة، فضحك وتعانقنا... كان لديه قدرة عالية وموضوعية علي التفرقة بين العام والخاص، فلم تؤثر علاقته الإنسانية أبداً علي ضمير القاضي، ولا علي حياديته، وكان يعلم أقدار الناس جميعاً ويحترم الجميع، ولم يكن يجامل أحداً كائناً من كان دون وجه حق.

في هذا اللقاء الأخير، ناقشني في فكرة إقامة مشروع سكني لشباب معاوني ووكلاء النيابة، وقد قامت النيابة بالفعل بشراء هذه الأرض من هيئة المجتمعات العمرانية وبسعر مرتفع جداً. وصارحته بأن هذا السعر مرتفع وأن التكلفة ستكون غالية. ولكنه بادرني بالقول «أنا عاوز أولادي (ويقصد أبناءه من أعضاء النيابة) يكونوا مستريحين وعايشين بكرامة ومش محتاجين، القاضي العادل لازم تكون كرامته وحياته مصونة». لم يكن مهموماً فقط بالقضايا الجنائية ولكنه كان مهموماً ببناء شخصية وكيل النائب العام وبصون كرامته وباستقلاليته، ولقد كان نموذجاً للإدارة المتميزة. وقلت له بس سيادة النائب انتم اشتريتم الأرض بسعر عالي، فرد عليّ يعني يا دكتور هنبقي مسئولين عن حماية المال العام، ونشتري لأولادنا أعضاء النيابة بأقل من سعر المثل. ومع ذلك انا عاوز اديهم بيوت محترمة ودن إرهاقهم مالياً.

كان رمزاً للعدالة بكل ما تعني الكلمة، وقاضياً جليلاً بالمعني الحرفي للكلمة. وفي ذلك اللقاء دخل أحد المستشارين السابقين، وبدا عليه أنه فوق الخمسة والسبعين عاماً، وكان يتصرف بأريحية شديدة، واستقبله النائب العام بكل تبجيل واحترام، وعرفت من الحوار أن هذا المستشار الجليل كان رئيساً للدائرة التي كان النائب العام عضواً بها في مستهل حياته القضائية، وقد شاهدت هذا القاضي المحترم يتلقي العزاء في النائب العام أمس. وكانت دلالة ذلك أنا النائب العام الراحل كان يحترم ويجل زملاءه ورؤساءه السابقين ويعترف لهم بالجميل ويعاملهم بكل التقدير دون نكران، وهذا ما جعله محبوباً بين زملائه ورؤسائه السابقين ومرءوسيه. وفي ذات اللقاء، وأثناء حديثنا استأذن أحد أعضاء المكتب الفني للحصول علي توقيع النائب العام. وبعد قيامه بالتوقيع، نظر لي قائلاً: «جبت للناس حقها بالقانون ليه مصرين علي الخروج علي القانون». واستطرد قائلاً: أنا لسه موقع علي أمر بحبس ضابط شرطة، وخلاصة المسألة أن أحد أصحاب معارض السيارات احتك بضابط الشرطة وأهانه وقام بالاعتداء عليه، فقام النائب العام بإصدار أمر بالقبض علي صاحب المعرض، ولكن لم ير الضابط أن هذا الأمر كافٍ، فقرر التسلل إلي قسم الشرطة والاعتداء علي المواطن المحبوس، فما كان من النائب العام حين اتصل علمه بالواقعة إلا أن أصدر أمراً بالقبض علي ضابط الشرطة، ولم يكن يجامل في الحق، ولا يفرق بين أحد من أبناء الوطن، ولم يكن يحركه شيء سوي الواجب والعدل. وأعلم أن التدخل في عمله كان خطاً أحمر فكان يقدس معني الاستقلالية للنيابة العامة والقضاء.

ومن بين ما ناقشناه في هذه الزيارة الأخيرة، كان مشروع قانون السجون، وأبدي النائب العام قلقه مما راجعه، وتراجع دور النيابة العامة في الإشراف علي السجون في المشروعات الأولية المعروضة عليه، وكانت وجهة نظره أن الرقابة علي السجون من النيابة العامة واجب والتزام يجب حمايته لأنه حق للمواطنين، وأنها ليس مسألة وجاهة بل أمر ضروري لحماية حقوق الإنسان.

دارت في عقلي ملامح هذا اللقاء الأخير كشريط للذكريات، وكلها تعكس قيمة ومقام هذا الرجل العظيم الذي فقدناه علي أيدي الغدر والخيانة. كان يعشق مصر وترابها، وكان إنساناً بسيطاً، وهو في غمرة انشغاله لم ينس أن يحدثني عن آخر أحفاده من ابنه الوحيد، وأنه سعيد به لأنه الحفيد الأول الذي يحمل اسمه ولقب العائلة، حيث إن أحفاده الآخرين من بناته، وداعبته يا سيادة النائب حضرتك صعيدي ولا إيه فقال كلهم حتة مني بس ده أول حفيد يشيل اسمي!! كان منتهي آماله وقد صارحني بذلك أن يعود إلي منصة القضاء بعد انتهاء مدة عمله كنائب عام وان يحظي بقدر من الراحة مع أسرته.

كان إنساناً محباً لبلده وعائلته ومهنته ويحترم نفسه احتراماً لمهنة القضاء ومسئوليته باعتباره المحامي الأول لمصر. رأيته كيف يعامل أعضاء النيابة كبيرهم وصغيرهم بكل الاحترام، وكيف يستمع إليهم ويحرص علي مناقشتهم.

إن اغتيال المستشار هشام بركات لم يكن اعتباطاً، فهو رمز للقضاء والعدو الأول للإرهاب، وصاحب قرار النيابة بفض اعتصامات رابعة، ولم يكن يهاب الموت. وكان يتوقعه بصدر رحب في سبيل بلاده. إن اغتيال النائب العام ليس مجرد اغتيال لشخصه بل محاولة لإرهاب قضاة مصر والنيل من عزيمتهم، وعزيمة المصريين.... هذه الخسة والنذالة يجب ألا تثنينا عن الاستمرار في مسيرة الإصلاح والتنمية.أرادوا باغتياله ان يكسروا هيبة الدولة وأن يرهبوا الشعب،ولن يفلحوا.

تعلو الأصوات الآن بضرورة إقامة محاكمات عسكرية واستثنائية سريعة لقادة التكفير وزعماء الظلام لاستئصالهم بأسرع وقت. وأقولها بصوت عال، إن قوة مصر، وقوة الدولة تكمن في تطبيق القانون، وتحقيق العدالة الناجزة من خلال القضاء العادي، وليس من خلال المحاكمات الاستثنائية.إن هناك ألف طريقة لتطوير أداء القضاء العادي وتحقيق العدالة الناجزة. الدولة القوية لا تنتقم، ولا تثأر، وإنما تطبق القانون وتقيم العدل، وإحدي صوره القصاص وفقاً لأحكام القانون وبإجراءات عادلة وناجزة. اللينك
استمع الي المقال عبر منصة اقرأ لي.. اللينك

0 التعليقات:

إرسال تعليق